يسعى الاتحاد الأوروبي إلى مواصلة علاقاته الاقتصادية مع إيران بموجب الاتفاق النووي، وذلك على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق في 8 مايو الماضي وفرضها حزمة من العقوبات الاقتصادية الجديدة على إيران. وبناءً عليه، تبنى الاتحاد، في الأشهر الماضية، حزمة إجراءات مضادة لحماية مصالحه الاقتصادية مع إيران وتلافي العقوبات الأمريكية، يتمثل أهمها في تدشين آلية "وسيلة الأغراض الخاصة" وتفعيل قانون "التعطيل الأوروبي" بجانب السماح لبنك الاستثمار الأوروبي بالقيام بأعمال في السوق الإيرانية. ومع ذلك، يبدو أن هذه الآليات غير فعّالة بالشكل الكافي في ظل إحجام الشركات والمؤسسات الأوروبية نفسها عن مواصلة التعامل مع إيران خشية العقوبات الأمريكية.
اهتمام ملحوظ:
يتمسك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي مع إيران، حيث يبدو مقتنعًا بأن إيران تواصل التنفيذ الكامل والفعّال لالتزاماتها النووية بموجب الاتفاق، وذلك وفق تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلاً عن ذلك يمثل الاتفاق آلية دولية ملاءمة، في رؤية الاتحاد، لاحتواء طموحات إيران لتطوير قدراتها النووية، وهو ما لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
وبناءً عليه، أصر الاتحاد الأوروبي على مواصلة علاقاته الاقتصادية مع إيران على مدار الأشهر الماضية، بموجب الاتفاق النووي، وذلك رغم اتجاه الإدارة الأمريكية نحو تطبيق جولة جديدة من العقوبات على إيران بدأت حزمتها الأولى في 7 أغسطس الماضي، ويتنظر سريان الثانية في 4 نوفمبر المقبل، والتي تقيد المعاملات المالية والاستثمارية للشركات الأمريكية والأجنبية في السوق الإيرانية.
وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر أن مواصلة علاقاته الاقتصادية مع إيران تمثل فرصة لإثبات سيادته الاقتصادية بعيدًا عن الانحياز للموقف الأمريكي، وهو ما أكده مسئولون فرنسيون في أكثر من مناسبة خلال الأشهر الماضية، ويأتي ذلك على الرغم من محدودية العلاقات التجارية بين الاتحاد وإيران والبالغة نحو 23.8 مليار دولار (أى ما يساوي 0.5% من تجارة الاتحاد مع العالم)، فضلاً عن أن توفير مصادر بديلة لمشترياته من إيران، والتي تتراوح في العادة بين 600 ألف و700 ألف برميل يوميًا، لا يبدو مهمة صعبة.
في الوقت نفسه، ربما وجد الاتحاد الأوروبي في هذه الأزمة فرصة للابتعاد عن النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الألماني هيكو ماس، في 27 أغسطس الماضي، بتأكيده على أهمية تعزيز أوروبا استقلالها من خلال إنشاء قنوات دفع مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية بعيدًا عن نظام "سويفت" العالمي.
خطوات متعددة:
سعى الاتحاد إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات بهدف حماية مصالحه التجارية والاستثمارية مع إيران، يتمثل أبرزها في:
1- وسيلة الأغراض الخاصة: توصل وزراء خارجية روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، في سبتمبر الماضي، إلى اتفاق يقضي بضرورة إنشاء آلية تعرف بـ"وسيلة الأغراض الخاصة" لتجنب العقوبات الأمريكية ضد إيران، التي ستطبق حزمتها الثانية في 4 نوفمبر المقبل، بحيث تسمح للشركات الأوروبية مواصلة علاقاتها التجارية والمالية مع إيران، بما يتماشى مع القوانين الأوروبية، في الوقت الذي سوف تتيح هذه الآلية للدول الأخرى إمكانية المشاركة.
وحتى الآن، تبدو ماهية الآلية بالتحديد غير معروفة، إلا أنها تستند، بحسب الترجيحات الأولية، إلى تبادل المنتجات النفطية الإيرانية مقابل السلع والخدمات بجانب استبدال اليورو بالدولار في هذه الصفقات، في الوقت الذي من المتوقع فيه أيضًا أن تمارس الشركات الصغيرة والمتوسطة دورًا أكبر في المعاملات الاقتصادية مع إيران بعد إنهاء الشركات كبيرة الحجم أعمالها في إيران على ضوء تطبيق الحزمة الأولى من العقوبات الأمريكية في 7 أغسطس الماضي.
2- قانون التعطيل الأوروبي: قبل إقرار الآلية السابقة، أعلن الاتحاد، في مايو الماضي، عزمه تفعيل قانون "التعطيل الأوروبي" لحماية الشركات الأوروبية الراغبة في ممارسة أعمال في إيران من العقوبات الأمريكية، وهو القانون الذي طبقه منذ عام 1996 لمواجهة العقوبات الأمريكية على ليبيا وكوبا. ويسمح القانون بحماية الشركات الأوروبية من العقوبات التي يتخذها بلد ثالث، كما يحظر على المؤسسات الأوروبية الامتثال للعقوبات الأمريكية تحت طائلة التعرض لعقوبات يحددها كل بلد عضو.
3- توفير التمويل: في إشارة رمزية إلى استمرار الدعم الأوروبي لإيران، قدم الاتحاد، في 23 أغسطس الماضي، مساعدات تنموية للحكومة الإيرانية بقيمة 20.6 مليون دولار ضمن حزمة خصصها للأخيرة بقيمة 57 مليون دولار، لتلافي آثار العقوبات الأمريكية. وفي خطوة سابقة، حاول الاتحاد إتاحة منصة أخرى لتوفير الأموال اللازمة لتنفيذ المشروعات التنموية بإيران، حيث سمح البرلمان الأوروبي، في 4 يوليو الماضي، لبنك الاستثمار الأوروبي بممارسة الأعمال في إيران وتمويل المشروعات هناك، على الرغم من أن هذه الموافقة لا تعتبر ملزمة بالفعل للأخير.
عقبات مختلفة:
تزايدت الشكوك حول مدى نجاح الخطوات الأوروبية السابقة في الالتفاف على العقوبات الأمريكية وذلك لاعتبارات عديدة: يتمثل أولها، في أنه لن يكون بمقدور الاتحاد إجبار أو إقناع الشركات الأوروبية على الاستمرار في علاقاتها الاستثمارية مع إيران أو حتى شراء النفط الإيراني، حيث يتوقع أن يؤدي قيامها بذلك إلى الإضرار بمصالحها في السوق الأمريكية، كما قد يحرمها من الاستفادة من نظام المدفوعات العالمي.
وبالفعل أوقفت العديد من الشركات الأوروبية، في الأشهر الماضية، أعمالها في السوق الإيرانية، كان أبرزها شركة "توتال" الفرنسية بعد فشلها في الحصول على إعفاءات من الإدارة الأمريكية لمواصلة أعمالها في تطوير المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي. كما تبين البيانات الأولية لصادرات النفط الإيرانية لشهر سبتمبر الماضي تراجعًا في المشتريات الأوروبية إلى مستويات تقل عن 490 ألف برميل يوميًا وبما يقل عن 42% من المستويات المعتادة.
ويتعلق ثانيها، بأنه حتى إذا كانت هذه الآلية توفر فرصة لتلافي إجراء المعاملات بالدولار الأمريكي، إلا أن العقوبات الأمريكية تضع قيودًا واسعة على تبادل النفط وغيره من المنتجات مع إيران، فضلاً عن تقييد ممارسة الأعمال في إيران بأشكالها المختلفة.
وينصرف ثالثها، إلى أن واشنطن ربما تتجه إلى التأثير على عمل آلية "وسيلة الأغراض الخاصة" نفسها من خلال فرض عقوبات على المتعاملين بها، في الوقت نفسه الذي لا توفر فيه سوى حماية ضئيلة وتعويضًا طفيفًا للشركات المتأثرة.
أما رابعها، فيتصل بالموقف الخاص ببنك الاستثمار الأوروبي، الذي استبعد، في 18 يوليو الماضي، إمكانية إجراء أى تعاملات مع إيران، مبررًا ذلك بأنه سوف يُعرِّض عملياته الدولية وقدرته على جمع أموال في الأسواق الأمريكية للخطر.
ورغم ذلك، يبدو أن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي لا تقوم بأعمال كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية ستكون قادرة على مواصلة التعامل مع إيران. إلا أن حجم تجارة هذه الشركات لا يبدو كافيًا للحفاظ على الاقتصاد الإيراني من الانكماش.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية سوف تنجح، على الأرجح، في تقويض الجهود الأوروبية لحماية المصالح التجارية والاستثمارية في إيران.